• لبّيكَ اللهمَّ لبّيكَ

    الحج

    أنها أمـَّة ذات رسالة عالميــة  ، وهي وحـدها تملك الهدى ، وكلُّ من في الأرض غيـرها على الضلال ، وهي وحدها في النـور ، وغيرها في الظلمـات ،  ولهذا قال تعالـى ( أُخـرجت للناس ) أي أخرجت بالعقيدة الهادية للناس جميعا ، لتعلو بها على الأرض جميـعا ، متجاوزة كلَّ الحدود الجغرافيّة ، والعنصريّة ، و القوميّة ، والعرقيّة .. إلخ .

     
     
    دخل اليوم العشر الأُوَل من ذي الحجة التي هي أحبُّ الأيـّام إلى الله تعالى ، وفي الحديث : ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام ، يعني أيام العشر ، قالوا : يارسول الله ، ولا الجهاد في سبيل الله ، قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلاّ رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ) رواه البخاري
     
    وذلك لأنَّ فيها تقع أمّهـات العبادات ، وشريعة الحـج ، والحـجُّ إنما هو السيـر على خطى خليل الله إبراهيم عليه السلام ، التي إقتفـى أثـرها خليلُ الله محمد صلى الله عليه وسلم ، 
     
    فهو من أول خطوة يخطوها الحاج ، إستجابة لنداء إبراهيم عليه السلام إذ أذَّن في الناس لتهوى أفئدتهم إلى بيت الله الذي بناه ، قال تعالى ( وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كلِّ ضامـر يأتين من كلِّ فج عميق )
     
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله : ( فذُكـر أنه قال : يا ربّ كيف أبلغ الناس ،  وصوتي لا ينفذهم  ؟! فقال : ناد وعلينا البلاغ ، فقام على مقامه ، وقيل على الحجر ، وقيل على الصفا ،  وقيل على أبي قبيس ، وقال : يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجُّوه ، فيقال إنّ الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ،  وأسمع من في الأرحام ،  والأصلاب ، وأجابه كلُّ شيء سمعه من حجر ، ومدر ، وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : لبيك اللهم لبيك ، هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ، ومجاهد ،  وعكرمة ، وسعيد بن جبير ،  وغير واحد من السلف ، والله أعلـم ) .
     
    ولما كان الحجُّ هو ترجمة لعمـق الأمـّة الجغرافي ، إذ هـو المؤتمر الوحيد الذي يجتمع فيه أهل التوحيـد من كلّ فـجّ عميق في مكـان واحـد ، ناسب أن يُربـط بعمـق الأمـّة التاريخي ، وهـو خُطى إبراهيم عليه السلام ، أبي الأنبيـاء _ أكثـر الأنبياء _  ليتشكّل من هذين الرابطيـن العظيـمين ، البعـدان الرئيسان لهذه الأمَّة العظيمـة التي بُعثت جامعـةً لميراث كـلِّ الرسالات ، وأُمرت بإكمـال مسيرة الرسل بالجهـاد إلى نهايـة التاريـخ .
     
    وهذا هـو البُعـد الأول ، أمـّا الثاني فهـو أنها أمـَّة ذات رسالة عالميــة  ، وهي وحـدها تملك الهدى ، وكلُّ من في الأرض غيـرها على الضلال ، وهي وحدها في النـور ، وغيرها في الظلمـات ،  ولهذا قال تعالـى ( أُخـرجت للناس ) أي أخرجت بالعقيدة الهادية للناس جميعا ، لتعلو بها على الأرض جميـعا ، متجاوزة كلَّ الحدود الجغرافيّة ، والعنصريّة ، و القوميّة ، والعرقيّة .. إلخ .
     
    وخليل الله ونبيه إبراهيم بجهاده العظيم ، هـو مفصـل التاريخ الأعظـم ، ذلك أن التاريخ عندنـا يتمحور حول حقب الأنبيـاء فحسب ، وتدور رحاه حول الصراع بين الحقّ الذي جاءت به الأنبياء ، والباطـل الذي مع أعدائهم ، ثم يتكـرر كل عصر في صور شتى ، وحقيقـة واحـدة ، كما قال تعالى : ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ،  أتواصوا به بل هم قوم طاغون ).  
     
    وبداية هذا الصراع الذي هو حقيقة التاريخ العظمـى ، في حقبـة نوح عليه السلام ، ومفصله الأوسط في حقبة إبراهيم عليه السلام ، وخاتمته ونهاية التاريـخ هي التي نحن فيها ، بل في آخـرها ، وهـي حقبة نبيّنا محمّد عليه الصلاة والسلام ، خاتم النبييّن وسيّد المرسلـين  .
     
     فإبراهيم عليه السلام ، هـو مجـدّد الرسالات ، ولهذا يبدأ الله بذكره بعد حقبة نوح والنبيين من بعده ، عندما يذكر موكب الرسالات ، كما قال تعالى : ( إنّاأوحينا إليك ، كما أوحينا إلى نوحٍ والنبييّن من بعده ، وأوحينا إلى ابراهيم ،  وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط وعيسى ، وأيوب ، ويونس ، وهارون ، وسليمان ، وآتينا داود زبورا )
     
    وقال الحق سبحانه : ( شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا ، والذي أوحينا إليك ، وما وصّينا به ابراهيم ،  وموسى ، وعيسى ،  أن أقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه ، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ،  الله يجتبي إليه من يشاء ، ويهدي إليه من ينيب )
     
    ويبدأ الله تعالى بذكره عندما يذكـر الإيمان بما أنزل على الأنبياء ، كما قال تعالى : (  قولوا آمنا بالله ، وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى ابراهيم ، واسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، وما أوتي موسى ، وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم ،  لا نفرق بين أحد منهم ، ونحن له مسلمون ، فان آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ،  وإن تولوا فإنما هم في شقاق ) .
     
    إذ كان هو عليه السلام أبوهم الأكبـر ، ومعلم الخير الأعظـم قبل محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال تعالى معظِّما شأنه ، مبجّـلاً أمره ، منوِّهـا بجاهـه العظيم عند ربـّه : ( إنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، شاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ ، وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ )
     
    ولهذا كانت رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم ، إتباع لملّة إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى بعد الآيات السابقات في أواخـر سورة النحـل : ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .
     
    وقال تعالى : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ،  واتبع ملَّة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا ) .
     
    وإنما استحق خليل الله إبراهيم عليه السلام كلَّ هذا من الله تعالى ، لأنـّه قام بأربعـة مقامـات هي أعظـم مقامات العبودية لربّ العالمـين  :
     
    أحدهـا تحطيمه الجاهلية المتمثلة في عصره بالأصنام ، ومواجهته لقومه الكفـار وحيداً ، متوكـلا على الله وحـده ، وصبـره على ذلك حتى حـرقوه في النـار ، فجعلها الله بردا وسلامـا عليه .
     
    والثاني : جهاده العظيم في مواجهة الطاغيـة النمرود بن كنعان بن كوش ، وكان أحد ملوك الدنيا بأسرها ، فإنه قد ملك الدنيا فيمـا ذكروا أربعة : مؤمنان ، وكافران ، فالمؤمنان ذو القرنين ، وسليمان ، والكافران النمرود ، وبختنصر ، وكان النمرود قد طغى مستمرا في ملكه أربعمائة سنـة ، فواجهـه إبراهيم عليه السلام  بالحـقّ وحـده ، حتى قطع حجّـته ، فأذلَّ طغيانـه .
     
    والثالث : قيامه بالتوحيـد الكامل ، بالخضوع التام لطاعة ربه ، حتى أمر بذبح ولده ، فإستجـاب ، وتلَّه للجبين ، ففداه الله بذبح عظيـم ،
     
    ولهذا قال تعالى عنه : ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ، وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )
     
    الرابع : براءته من كلِّ من ناقض التوحيد ، حتى تبـرّأ من أبيه لما تبيّن له أنه عدوُّ لله تعالى ، كما قال تعالى : ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّه عَدُوٌ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إنَّ إبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ) .
     
    وقد قام بهذه المقامات كلُّها وليس في الأرض موحدا سواه _ وزوجته _ ثم آمن له لوط عليه الســلام ، فأكرمـه الله بالنبـُّوة ببركة دعوة إبراهيـم عليه السـلام ، كما كان خير النبييّن محمد صلى الله عليه وسلم إستجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام.
     
    ذلك أنـَّه كلَّما كان جـاه العابد لله أرفـع عند الله ، كان بركـته على غيـره أعظـم .
     
    ولهذا والله أعلم اختصَّ الله الخليـل برفعه قواعد البيت العتيق ، وأذانه في الناس بالحجِّ ، حتى إذا وصل كلُّ حاج إلى حيث دعاه إبراهيم عليه السلام ، إلى مركـز التوحيـد في الأرض كلٌها ، صلَّى ركعتيـن وراء مقام إبراهيـم ، وقد أبقى الله تعالى أثـرَ قدمـيه الشريفتـين ، أمام الكعبـة ، ليراه كلُّ ملبِّ ، فيتذكَّـر مقامات الخليل عليه السلام ، ويأتسي بحياته المليئة بالجهـاد من أجـل العقيـدة .
     
    فيكتب ذلك كلَّه في ميزان أعمال ذلك النبيِّ العظيم ، الذي كان أمّـة في رجـل ، وأحيا الله به موكـب الرسالة ، وجـدَّد به دين التوحيـد .
     
    وجازاه أعظـم الجزاء على جهاد العظيم ، أن جعـل النبوَّة محصورة في ذريـّته عليه السلام إلى آخـر الزمان ، وآخـرهـم خاتم الأنبياء ، سيد ولد آدم محمّد صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً .
     
    ولهذا فإن الحـاجّ الملبّي لربـّه بالتوحيـد ، ( لبّيك اللهمّ لبّيـك ) الذي يسير على خطى إبراهيم عليه السلام ، حريُّ به أن يتذكَّـر مقاماته العظيمة ، فيقيم بين مناسك الحج ، ومقاصدهـا علاقـة ، كعلاقـة الروح بالجسـد .
     
    فيعلن بتوحيده التمرُّد على جاهلية العصر المتمثلة في كلِّ ما يناقض دين الإسلام ، ويصـدع بمواجهـة طواغيت العصـر الذين طغوا في البلاد ، وأكثـروا فيها الفسـاد ، وتعدوا ذلك إلى إفساد الدين ، وتلبيس الحقِّ بالباطل.
     
    كما يعـلن الإستسلام التـامّ لشريعة الله وحده ، والكفر بما سواها من مناهج ، وشرائع ، وقوانين الجاهليـة .
     
    ويعـزم على الصبـر على هذا الحـقِّ ، ولو كان وحده ، كما كان إبراهيم عليه السلام .
     
    مظهـراً باللسان ، والجوارح ، وبجهـاد النفس ، والمال ، إنتمائـه لركـب المرسلين عبـر التاريخ كلِّه ، إلى محمّد صلى الله عليه وسلم ، متبرّئـا من كلّ أعـدائهـم .
     
    وأنت إذا تأمّلـت مناسك الحج ، وجـدتها كلَّها تدور على هذه المقامات الأربـع ، تؤكِّـدها أصـلاً ، وتفـرِّع عليها كـلَّ تفاصيـل شعائـر الحـج .
     
    ولهذا يرجع الحاجّ بعد حجّه كيوم ولدته أمـُّه ، مكافأة على قيامه بأعظم مقامات العبودية لله تعالى .
     
    غير أنـَّه لما كانت عبادة الحـجّ ، قـد أصابها ما أصـاب غيرها من العبـادات ، من تحوِّلهـا عند كثيـر من المسلمين ، إلى عـادات لايفقهون ما وراءها من المعاني الجليلة ، والمقاصد العظيـمة ، صار على قلوبهـم بين حجّهـم ، وحِكَمِـهِ ، حجابٌ مستـور ، وحجـرٌ محجـور .
     
    وهذا ونسأل الله تعالى أن يثبـِّتنا على ملة إبراهيـم عليه السلام ، ويرزقنا في هذه الأيـام المباركة ، الهدى ، والعمل الصـالح .
     
    ويرزق أمـتنا العـودة إلى دينـها ، والقيام بجهـادها للرجـوع إلى عزهـا.
     
    والله حسبنا ، عليه توكـلنا ، وعليه فليتوكـل المتوكـلون .
    الشيخ حامد العلي
    « يا خالد .. لو قامت لك سورة المسد !!دليلك الي مقاطعة الانتخابات »

    Tags وسوم : , , , ,
  • تعليقات

    1
    ياسين الجب
    الثلاثاء 9 نوفمبر 2010 في 13:30

    لبيك اللم لبيك

    Suivre le flux RSS des commentaires


    إظافة تعليق

    الإسم / المستخدم:

    البريدالإلكتروني (اختياري)

    موقعك (اختياري)

    تعليق