• النُّعَاس.. لُطف الله وسط المجزرة

    مجزرة رابعةتغالب عيناي غفوة سريعة بين الحين والآخر فتسقط رأسي من الإعياء، وحين بدأت أستسلم للحظات للنعاس وبدأت أرجع إلى الخلف لأستند على الخيمة لأنام إذا بي أسمع صوت من يتوجع لأني استندت عليه..
    كان أحد الجرحى بداخل الخيمة، وأدركت وقتها أن بعض من استسلم للنوم كان جريحا أثخنته الجراح..
    لم تذق عيني النوم سوى لحظات بسيطة لكنها والله كانت كأنها ساعات نوم طويلة أكملت اليوم بعدها إلى بعد منتصف الليل بعد المجزرة، مع العلم أني لم أكن نمت من ليلتها..
    وقت الحدث نفسه لم أكن أدرك أو أهتم بالنظر في هذه الحالة أو تفسيرها أو البحث عنها رغم أنها موجودة في كتاب ربنا عز وجل ونحفظ هذه الآيات عن ظهر قلب لكن الأهوال تنسي..
    تذكرت بعدها وأنا أسترجع ما تبقى في ذهني من أحداث هذا اليوم قول ربنا عز وجل:
    (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ)..

     

    بعد مرور 6 أشهر.. من الذكريات التي لا تنسى يوم مجزرة رابعة هذه الحالة العجيبة التي أصابت كل من حضر هذا اليوم..

    فبعد أن أعملت آلة القتل في الآلاف في كل أماكن أجسادهم وفي كل الأعمار، وأصبح لون الدم هو أكثر الألوان التي تراها العيون في كل مكان، وأصوات الصرخات تتعالى من كل حدب وصوب منذ ساعات الصباح..

    قبيل صلاة العصر كنت وقتها بالمركز الإعلامي الذي صار مستشفى ميدانيا قررت أن أخرج لوقت قليل لأن مشاهد الدماء أعيتني حقا فجلست على الأرض أمام المركز وإذا بي أرى العشرات ممن حضروا اليوم وهم ملقون على الأرض نياما..

    إعياء شديد هو حالة الجميع، بحثت عن مكان بجانبهم واستندت إلى خيمة وجلست..

    تغالب عيناي غفوة سريعة بين الحين والآخر فتسقط رأسي من الإعياء، وحين بدأت أستسلم للحظات للنعاس وبدأت أرجع إلى الخلف لأستند على الخيمة لأنام إذا بي أسمع صوت من يتوجع لأني استندت عليه..

    كان أحد الجرحى بداخل الخيمة، وأدركت وقتها أن بعض من استسلم للنوم كان جريحا أثخنته الجراح..

    لم تذق عيني النوم سوى لحظات بسيطة لكنها والله كانت كأنها ساعات نوم طويلة أكملت اليوم بعدها إلى بعد منتصف الليل بعد المجزرة، مع العلم أني لم أكن نمت من ليلتها..

    وقت الحدث نفسه لم أكن أدرك أو أهتم بالنظر في هذه الحالة أو تفسيرها أو البحث عنها رغم أنها موجودة في كتاب ربنا عز وجل ونحفظ هذه الآيات عن ظهر قلب لكن الأهوال تنسي..

    تذكرت بعدها وأنا أسترجع ما تبقى في ذهني من أحداث هذا اليوم قول ربنا عز وجل:

    (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ)..

    ولن أعلق على الآية فمهما قلت فلن أكون أكثر بلاغة من الشهيد سيد قطب حين تحدث في الظلال عنها فيقول:

    "أما قصة النعاس الذي غشي المسلمين قبل المعركة فهي قصة حالة نفسية عجيبة، لا تكون إلا بأمر الله وقدره وتدبيره.. لقد فزع المسلمون وهم يرون أنفسهم قلة في مواجهة خطر لم يحسبوا حسابه ولم يتخذوا له عدته.. فإذا النعاس يغشاهم، ثم يصحون منه والسكينة تغمر نفوسهم؛ والطمأنينة تفيض على قلوبهم (وهكذا كان يوم أحد.. تكرر الفزع، وتكرر النعاس، وتكررت الطمأنينة)..

    ولقد كنتُ أمر على هذه الآيات، وأقرأ أخبار هذا النعاس، فأدركه كحادث وقع، يعلم الله سره، ويحكي لنا خبره.. ثم إذا بي أقع في شدة، وتمر عليّ لحظات من الضيق المكتوم، والتوجس القلق، في ساعة غروب.. ثم تدركني سِنَة من النوم لا تتعدى بضع دقائق.. وأصحوا إنساناً جديداً غير الذي كان.. ساكن النفس. مطمئن القلب. مستغرقاً في الطمأنينة الواثقة العميقة.. كيف تم هذا؟ كيف وقع هذا التحول المفاجئ؟ لست أدري! ولكني بعدها أدرك قصة بدر وأُحد.

    أدركها في هذه المرة بكياني كله لا بعقلي. وأستشعرها حية في حسي لا مجرد تصور. وأرى فيها يد الله وهي تعمل عملها الخفي المباشر.. ويطمئن قلبي..

    لقد كانت هذه الغشية، وهذه الطمأنينة، مدداً من أمداد الله للعصبة المسلمة يوم بدر: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه).. ولفظ "يغشيكم" ولفظ "النعاس" ولفظ "أمنة".. كلها تشترك في إلقاء ظل لطيف شفيف؛ وترسم الظل العام للمشهد، وتصور حال المؤمنين يومذاك، وتجلي قيمة هذه اللحظة النفسية الفاصلة بين حال للمسلمين وحال".. انتهى

    رحمك الله يا شهيد وكأنك تصف حالنا يوم رابعة..

    أعد قراءة كلام قطب مرة أخرى بتركيز لترى كأنه كان جالسا معنا يومها وعلم حالنا فأحسن وصفه..

    وكلام ربنا عز وجل في أثر هذه السِّنَة من النوم التي لا تتجاوز لحظات أو دقائق في الربط على القلوب وتثبيت الأقدام..

    لم يستسلم أحد واستغرق في النوم بل كانت لحظات يخطفها ليعود بعدها ويكمل ما بدأ..

    تعجبت واندهشت ولا أدري حتى الآن كيف أفسر هذه الحالة العجيبة وكيف حدثت؟!!..

    كيف وسط أصوات الرصاص وهي تعلو الرءوس وصرخات الثكالى والدماء يستطيع المرء أن يغفو ولو للحظات لا يدري أصلا ربما لا يقوم بعدها من مكانه إن أصابته طلقة غدر من هنا أو هناك فقد أصبح بسكونه في مكانه هدفا سهلا؟!! ولكن..

    ولكن هي نعمة ربك ولطفه بعباده في هذه اللحظات فهل يخزيهم وهم في كنف لطفه؟!!..

    الآية تقول: (النعاس أمنة) يعني أمانا من الأعداء..

    فسبحان من جعل أشد لحظات الضعف أقواها وأكثرها أمنا، فقط لأنها في معية الله..

    هي سنن ربك وتدبيراته في كونه فلا تتعجب..

    لا يزال في ذاكرتي هذا الصيدلي الذي كان بجواري في المستشفى الميداني يعطي الدواء للأطباء وبعد ساعات من الحركة والجهد رأيته يجلس مكانه وقد استسلم للنوم..

    كنت أقف بجانبه لا أدري ماذا أفعل غير مناولة الأطباء الأشياء التي أعرفها كالشاش والقطن وخلافه..

    كل لحظة كنت أريد أن أوقظه ولكن كان قلبي يشفق عليه وعلى حاله..

    لسان حالي: نم يا صديقي قليلا فأمامنا يوم طويل ستحتاج فيه إلى هذه اللحظات البسيطة..

    لا أدري هل عاش بعدها أم اعتقل أم عاد إلى أهله سالما؟!!..

    كيف كان هذا يحدث؟!!..

    زال عجبي حين قرأت في السيرة يوم بدر عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا الْتَقَيْنَا يَوْمَ بَدْرٍ سَقَطَ عَلَيْنَا النُّعَاسُ فَكَانَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَقَالَ مِنَ السَّكْتَةِ وَالنَّعْسَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    لا أنسى يومها أن ما أيقظني من غفوتي أنْ صحوت على صوت هذه الأم وأولادها الثلاثة الصغار الذين جلسوا أمام المركز الإعلامي يبكون أخاهم مع أمهم وقد تعبوا من البحث عن أبيهم..

    لحظات بعدها ويظهر أبوهم قادما إلى المستشفى وقد أعياه الجهد لتخبره ابنته بنبأ استشهاد ولده ليجلس الأب على الأرض في ثبات عجيب يضم أولاده ويثبتهم ويخبرهم أن أخاهم في مكان أفضل الآن بين يدي الرحمن الرحيم..

    وقتها لم يكن مسموحا مرة أخرى بالنوم، ولتذهب هذه الغفوة عن العين لتعود مشاهد الدماء وأصوات آلام الجرحى!!..

    كثير من إخواني وأخواتنا رأيتهم يومها وقد أدركتهم نعمة ربي بهذه الغفوة وهذا الأمان وهذا اللطف..

    فهل تذكرون؟!..

    بقلم - هاشم أمين

    « السيدة زينب بنت جحش.. زوَّجني الله من فوق سبع سموات

    Tags وسوم : , , , ,
  • تعليقات

    لا يوجد تعليقات

    Suivre le flux RSS des commentaires


    إظافة تعليق

    الإسم / المستخدم:

    البريدالإلكتروني (اختياري)

    موقعك (اختياري)

    تعليق