• قضي الأمر الذي فيه تستفتيان

    قضي الأمر الذي فيه تستفتيانوالجميل في الدعوة والإجابة أن سيدنا يوسف عليه السلام كان بليغاً في الدعوة ثم الإجابة . فلو أنه أجابهما عن سؤالهما أولاً لم يلتفتا إلى دعوته لهما إلى الإيمان لأن حاجتهما إليه تكون قد انقضت . فقدم الدعوة على الجواب . ونراه أطال في الحديث والتعليل وتقليب الوجوه كما ذكرت آنفاً فكان حديثه – في دعوته - أربع آيات آخرهنّ أطول من الأوليات ، فقد كان فيها هدمٌ لمعتقدهم الشركي وتثبيتٌ للدين القيّم الصحيح.
    أما الجواب عن رؤياهما فكان مبتسراً قصيراً فيه حسم وقضاء لا يحتمل الاستئناف أو التطويل ،لقد كان جملتين قصيرتين ...
    ( أما أحدكما فيسقي ربه خمراً وأما الآخر فيًصلب فتأكل الطير من رأسه ) ثم حين فاجأهما قائلاً ( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) . وكأنه يقول لهما : هذه هي الحقيقة ، فلا تراجعاني فيها . فهو لا يملك تغييرها .

    قد يُسجن البريء لأنه شريف ، ويَسرحُ المجرم ويمرح لأنه فاسد يبيع نفسه وينغمس في المخازي والمغريات فهو خادم لهواه أولاً وخادم لأسياده الذين هم من طينته . ويوسف عليه السلام أبى أن يفعل الفاحشة وتمسك بالفضيلة ، فشعرت النساء بصغارهنّ أمامه ، ثم اتقدت في نفوسهن نار الكبر والعناد ( لئن لم يفعل ما آمره ليُسجنَنّ وليكوناً من الصاغرين ) ، وفضّل أن يُسجن على الوقوع في المعصية ويرتع في الآثام. وهذا بعض الابتلاء في هذه الدنيا يمحّص الله تعالى به الصالحين ، ويرفع درجاتهم في علّيين.

    - إن سيماء الصالحين تلازم أصحابها وتدل الناس عليهم . ويبقى الصالح صالحاً والمحسن محسناً أينما كان وحيثما حلّ . في نعمة القصور ورغد العيش أو في ظلمة السجن وغياهب المعتقلات ، يتعرف بها عليهم من يعيش معه ويلازمه . فهذان فتيان دخلا السجن يوم دخله يوسف عليه السلام ( ودخل معه السجنَ فتَيان ) تابَعاه ولاحظا تصرفاته ، فإذا هو أدب وأخلاق ، وعِلمٌ وفهمٌ ، وذكاء وزكاء، ووقر في نفسيهما أن هذا الإنسان لم يجترم إثماً ، ولم يرتكب خطأً وأنه دخل السجن بمكيدة ومكر حاكه من لا يخاف الله ليداري سوءته ويخفي جُرمه. ومثل هذا الإنسان حريٌّ أن يُستفتى وأن يُستنصح . فلما رأى أحدهما رؤيا أرّقته جاء يعرض رؤياه عليه ويستفتيه في تأويلها، وفعل الثاني مثله ، فالأول رأى نفسه يسقي سيده الخمر ، ورأى الثاني أنه كان يحمل فوق رأسه خبزاً يأكل الطير منه . ولن يجد صاحب الحاجة تفسيراً لما يؤرقه إلا عند من يثق بدينه وخلقه وفهمه ( نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ) . فلقد كان يوسف عليه السلام من سادة المحسنين وينتمي إلى دوحة النبوة المشرق بنور الإيمان والإحسان، ( فهو النبيُّ يوسف ابنُ النبيِّ يعقوبَ ابنِ النبيِّ إسحاقَ ابنِ النبيِّ إبراهيمَ ) عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه .

    - قرر أن يجيبهما – وهل يملك إلا أن يجيبهما؟، فمن لجأ إليك واستعان بك فمن المروءة أن تكون عند حسن ظنه . ولكن لا بد أن يغتنم فرصة انتباههما إليه ووقوفهما بين يديه فيدعوَهما إلى دين الحق ويخرجهما من ظلم الشرك وظلام الكفر إلى العدل التوحيد ونور الإيمان ، فبدأ :
    أولاً : بترسيخ الثقة التي أولياه إياها فأنبأهما أنه يعلم بعض الأمور الغيبية التي وهبه الله تعالى علمها قبل أن تتحقق.
    ( لا يأتيكما طعام تُرزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ) .
    ثانياً : وأن هذا العلم ما أوتيه إلا لأنه يؤمن بالله الواحد الأحد , وأهل التوحيد هم أهل البصيرة الحقة . ( ذلكما مما علمني ربي ) . فالله هاديهم ومعلمهم.
    ثالثاً : وعلّمنا يوسف - كما علم الفتيين - أن القدوة الحسنة سبيل إلى الهداية وهاد إلى الطريق الحق وأن على الكبار أن يعلّموا الصغار دينهم، فالعلم في الصغر كالنقش في الحجر
    ( واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ) .
    رابعاً : وذكر أن فضل الله تعالى بالهداية مبذول للناس جميعاً ، فمن شكر ظفر ( ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ) .
    خامساً : ثم ساءلهما ليفكرا التفكير السليم ويجيبا الإجابة الصحيحة بعد تفكر وتدبر أن وجود الآلهة المتعددة مجلبة لفساد الحياة ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) فكل إله يريد أن يعلو على الآلهة الأخرى ويفرض ذاته على الآخرين . ( ... ولعلا بعضهم على بعض ... ). وما وجود آلهة كثيرة إلا من التخرص وظن العقول القاصرة.

    - لا يصاحب المسلم إلا مسلماً ولا يصادق المؤمن إلا المؤمن ، فالطيور على أشكالها تقع ، والرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا بهذا إذ يقول : ( لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامَك إلا تقي ) وبهذا نفهم قول سيدنا يوسف للفَتَيَيْن مرتين ( يا صاحِبَيِ السجن)

    - والجميل في الدعوة والإجابة أن سيدنا يوسف عليه السلام كان بليغاً في الدعوة ثم الإجابة . فلو أنه أجابهما عن سؤالهما أولاً لم يلتفتا إلى دعوته لهما إلى الإيمان لأن حاجتهما إليه تكون قد انقضت . فقدم الدعوة على الجواب . ونراه أطال في الحديث والتعليل وتقليب الوجوه كما ذكرت آنفاً فكان حديثه – في دعوته - أربع آيات آخرهنّ أطول من الأوليات ، فقد كان فيها هدمٌ لمعتقدهم الشركي وتثبيتٌ للدين القيّم الصحيح.
    أما الجواب عن رؤياهما فكان مبتسراً قصيراً فيه حسم وقضاء لا يحتمل الاستئناف أو التطويل ،لقد كان جملتين قصيرتين ...
    ( أما أحدكما فيسقي ربه خمراً وأما الآخر فيًصلب فتأكل الطير من رأسه ) ثم حين فاجأهما قائلاً ( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) . وكأنه يقول لهما : هذه هي الحقيقة ، فلا تراجعاني فيها . فهو لا يملك تغييرها .

    - ونجد ذكاء نبوياً عجيباً في الجواب. فهو – عليه الصلاة والسلام- يَعلمُ مَن ذكر أنه سقى سيده خمراً ومَن قال : إن الطير تأكل خبزه فوق رأسه . فلم يشر للأول أنه ناج ولم يشر للثاني أنه سيقتل. وإنما ذكر كلمة ( أحدكما ) فيعرف كل منهما تأويل رؤياه دون أن يشير يوسف إلى كل واحد منهما بعينه، فقال جملة تدل على الحكمة والنباهة ( أما أحدكما فيسقي ربه خمراً وأما الآخر فيًصلب فتأكل الطير من رأسه ).

    - ونراه حين يبشر الأول يذكره بالفعل المبني للمعلوم ( فيسقي ربه خمراً ) أما الذي يقتل فقد ذكره بالفعل المبني للمجهول ( فيُصلب ) ولم يقل ( فيُقتل) فالقتل أشد وقعاً من الصلب الذي يكون بعد القتل ولا يشعر المقتول به . ألم يؤته ربه سبحانه الحُكم والعلم وهو في بداية صباه؟ ( ولمّا بلغ أشدّه آتيناه حُكماً وعلماً .. ) .

    - وتمتعْ معي بفاصلتي الآية الثامنة والثلاثين والآية الأربعين اللتين جاءتا في مكانهما المناسب – وكل ما في القرآن جاء مناسباً لا يقوم غيرُه مكانَه - ، فقد كانت الأولى: ( ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون ) ، قد جاءت تذكر بفضل الله تعالى على الأنبياء والناس أجمعين أنْ هداهم إلى الحق فوجب شكره سبحانه . وكانت الثانية: ( ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ) تأمر بالإخلاص لله وحده في العبادة وتؤكد أن الإسلام دين الله القيم الذي يرضاه الله تعالى للناس فضلّ أكثرُ الناس عنه ، ولم يعلموه فجهلوه .

    - وأخيراً رأى الأول أنه يعصر عنباً فيصير خمراً يسقي سيده منه ، - والخمر لا يُعصر- إلا أنه مجاز مرسل علاقته باعتبار ما يكون ، وهذا التعبير غاية في الإيجاز والجمال . وحين يكون الإنسان حياً – إن وَضع على رأسه خبزاً – أكل منه الطير إنْ أمِنَه ولم يخفه . لكنّه حين يلقى حتفه موتاً أو صلباً ولا يُدفن أكلت منه الجوارح ولا تبالي .
    والله أعلم

    عن موقع رابطة أدباء الشام

    « الكافر والمشرك والضال أبو بكرة الثقفي ..طليق الله وطليق رسوله »

    Tags وسوم : , , , ,
  • تعليقات

    لا يوجد تعليقات

    Suivre le flux RSS des commentaires


    إظافة تعليق

    الإسم / المستخدم:

    البريدالإلكتروني (اختياري)

    موقعك (اختياري)

    تعليق